السخرية في “حديقة الحيوان” ليوسف فاضل

“لا يوجد في حياتنا ما هو تراجيدي، لا يوجد سوى ما يثير السخرية.”·

يوسف فاضل، قصة حديقة الحيوان.

صدرت رواية حديقة الحيوان عن دار الفينيك بالمغرب سنة 2008، وهي العمل الروائي السابع·· في رصيد الكاتب المغربي يوسف فاضل الروائي. تقع في 385 صفحة من القطع المتوسط، وتتألف من تصدير وخمسة فصول، هي على التوالي: لعب، مكان أقرب، الحب، صحراء، الكرنفال، يتكون كل فصل منها من مقاطع مرقّمة يتراوح عددها بين أحد عشر مقطعا (الفصل الثاني) وستة عشر (الفصل الأول). كما أن طول هذه المقاطع يتراوح بين صفحتين وعشر صفحات.

تدور أحداث الرواية في السبعينيات من القرن العشرين، وتحكي عن شابين مغربيين يعيشان في مدينة الدار البيضاء في عقد السبعينيات من القرن الفارط، هما السيمو ورشيد، يجمع بينهما عشق المسرح والظروف الاجتماعية والمادية الصعبة. فالسيمو اعتقل أبوه حسن الميكانسيان إثر تورطه مع رفيقين له في اغتيال إطار من حزب الاستقلال، وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى المؤبد. ومن ثمة فهو يعيش عاطلا مع أمه وزوجها الحاج المامون.

سيتعرف السيمو على نورا –المولعة بالمسرح هي أيضا- التي تخلى عنها عشيقها رابح بعد أن ولدت منه طفلة، وستنشأ بينهما علاقة غرامية ستسفر عن حمل، وميلاد طفل. لكن السيمو سيتخلى عنها وعن الطفل، ويسافر إلى باريس لدراسة المسرح. وهكذا سيقضي ما يناهز سنة ونصفا في عاصمة الأنوار متشردا، ليعود إلى المغرب بعد علمه بإطلاق سراح أبيه. سيلتقي بنورا من جديد وسيتزوجها ويعترف بالطفل الذي أنجبته منه، ثم سيسافر من جديد إلى ليبيا حالما بالعثور على عمل واستقدام زوجته وابنه، والاستقرار هناك، لكن نورا فضلت السفر إلى إيطاليا والإقامة بها مع طفليها، وهو ما جعل السيمو يقرر العودة إلى المغرب.

الشخصية الرئيسية الثانية هي رشيد. يعيش مع أخته وزوجها في منزل ضيق بالكاد يكفيهما. وقد كان حلمه هو أن يصير كاتبا مسرحيا بارزا. منذ بداية الرواية وهو يسعى إلى إعادة كتابة صيغة مغربية لمسرحية “قصة حديقة الحيوان” للكاتب المسرحي إدوار ألبي. شارك في مباراة توظيف المعلمين ونجح فيها. وبعد قضاء فترة تدريب عُيّن معلما بالشماعية. لكن قساوة ظروف العمل، وتعلقه بالمسرح سيدفعانه إلى التخلي عن المنصب والعودة إلى البيضاء. لتتأزم أوضاعه المادية من جديد، ويرتمي بين أحضان المخابرات، ويعمل جاسوسا على أصدقائه ومعارفه مقابل أجر تافه.

على أن شغفه بالمسرح لم يَخبُ مع ذلك، إذ نجح في إعادة كتابة مسرحية إدوار ألبي، ومثلها أمام الجمهور صحبة السيمو. وبينما كان السيمو يمسك بالحبل الذي يفترض أن يشنق به رشيد نفسه في المشهد الأخير، انشغل بتصفيقات الجمهور وترك صديقه يلفظ أنفاسه. وتنتهي الرواية باعتقال السيمو.

إلى جانب هذا المحكي الرئيسي، تحفل الرواية بمحكيات فرعية كثيرة، بحيث أن لكل شخصية حكايتها الخاصة، يحكيها السارد تارة، ويعيرها الكلمة لتحكيها بنفسها تارة أخرى. فهناك الحاج المامون وحسن الميكانيسيان ومصطفى النمس ونورا ونعيمة ورابح والأستاذ وعبد الرحيم وإبراهيم الشلح وعمي عمر ولكبير وتجار البال وبياتريس وفريديريك ونسيمة وعبد الرحمن… ولعل ما يجمع بين معظم هؤلاء هو انتماؤهم إلى الهامش، وأنهم عاشوا أو ما يزالون يعيشون في الفقر والحاجة والحرمان. وإذا كان بعضهم قد توفق في جمع ثروة والخروج من البؤس، عن طريق الغش والتدليس والانتهازية، فإن أكثرهم ما زال يعيش في الفاقة، ويصارع من أجل البقاء.

لقد عرت هذه الرواية الكثير من عيوب النظام السياسي المغربي في مرحلة السبعينيات وانعكاساته على الحياة الاجتماعية والفكرية والأخلاقية. فقد تطرقت لمواضيع متعددة كالاستبداد والقمع والاغتيالات وإذلال المثقفين وتمييع الحياة الفنية والثقافية والرشوة واقتصاد الريع وانتشار البؤس والبطالة وانسداد الأفق أمام الشباب، وما صاحب كل ذلك من انحطاط على مستوى القيم كتمجيد الانتهازية وشيوع النفاق والرياء والأنانية وانتشار الدعارة والابتزاز واستغلال الدين… وقد توسل الكاتب في نقده لهذه المظاهر بسلاح فعّال هو السخرية. فكيف تحضر هذه السخرية في النص؟ وما الاستراتيجيات التي اعتمدها فيه الكاتب؟

لا مناص من الاعتراف بادئ ذي بدء بأن دراسة السخرية في النصوص الأدبية تكتسي أهمية خاصة، لأن “قراءة خطاب السخرية في أعمال كاتب من الكتاب يبدو عنصرا أساسيا في تمثل خصائص كتابته، وتعرّف مميزات أسلوبه.”[1] ومن ثمة فإن مقاربتنا لهذا البعد من الرواية يتوخى إلقاء الضوء على جانب من جوانب جمالية الكتابة الروائية عند يوسف فاضل.

1-السخرية في الخطاب الأدبي: من المقاربة الدلالية إلى المقاربة التداولية.

من الصعب تقديم تعريف جامع مانع للسخرية. فهي مفهوم منفلت يتأبى على الضبط والحصر. فقد حظيت بدراسات كثيرة ومتنوعة عبر العصور، وأثارت نقاشات وسجالات عديدة، وخضعت لمقاربات متباينة، تنتمي لحقول معرفية متعددة من فلسفة وبلاغة ولسانيات وأسلوبية وسيميائيات وعلم النفس وسوسيولوجيا وغيرها… ولعل أبسط تعريف لها هو أنها قول يطلق ويراد منه عكس معناه الظاهر. بعبارة أخرى هي كلام يملك معنيين: معنى مباشر، ومعنى غير مباشر هو ضد المعنى الأول كأن تصف شخصا بالذكاء وأنت تقصد أنه غبي. على أن المتلقي قد لا يهتدي بالضرورة إلى هذا المعنى الخفي المقصود، ويقتصر على المعنى المباشر، ومن ثمة يغيب عنه جانب السخرية في الكلام. معنى هذا أن دور المتلقي أساسي في إدراك السخرية، ومن ثمة لا يمكن الاقتصار في تعريفها على المفارقة الدلالية، بل يلزم إدخال بعد آخر هو البعد التداولي. فالأثر الساخر ينشأ لدى المتلقي نتيجة عملية تداولية تقتضي من المرسل (المتكلم أو الكاتب) أن يشفر الرسالة الساخرة، مثلما تقتضي من المتلقي (مخاطبا كان أو قارئا) فك ذلك التشفير التشفير. وكما تقول ليندا هوتشيون: “السخرية تشتغل مثل تلك الظواهر اللسانية التي لا تملك وضعية دائمة ومكتملة داخل اللغة، بل هي تستمد دلالتها، خلافا لذلك، من فعل إنتاجها اللساني، أي من تلفظها.”[2]

إن وجود السخرية في الملفوظ من هذا المنظور لا يكون إلا بالقوة، ومن ينقلها إلى الوجود بالفعل هو المتلفظ له. فهو الذي يؤولها، ويصل إلى القصد الخفي للمتلفظ. وبطبيعة الحال، فهذه العملية محفوفة بالمخاطر، بحيث أن المتلقي معرض إلى الفشل في إدراك البعد الساخر للرسالة، أو بالمقابل، قد يضفي هذا الطابع على رسالة لا سخرية فيها.

فالسخرية إذن نمط من التواصل يقتضي قدرا من التواطؤ والتعاون بين المرسل والمتلقي، بحيث يُضمِّن الأول خطابه بعض القرائن التي تدل على أنه ساخر، ويحاول الثاني العثور عليها للوصول إلى المعنى الضمني المناقض للمعنى الظاهر.

إن الساخر يشطر متلقيه إلى فئتين:  فئة تدرك ازدواجية معنى الرسالة، وتستشف قصده، وهؤلاء هم المتواطئون معه، الذين يفهمونه. وهم يحظون بمكانة خاصة ومتميزة بين جمهور السخرية لأنهم يملكون القدرات اللازمة للنفاذ إلى معنى الرسالة الخفي، وهي قدرات حصرها فيليب هامون في ثلاث: لسانية ونوعية وإيديولوجية.[3] أما الفئة الثانية فلا تدرك إلى المعنى الظاهر، وقد لا تدرك أنها موضوع السخرية.

إن السخرية تقوم على ضرب من لعبة الخفاء والتجلي، ذلك أنها بقدر ما ينبغي أن تكون خفية ومتكتمة، يلزم أن تترك لمتلقيها بعض القرائن اللطيفة الدالة على وجودها. وكما تقول ليندا هوتشيون إن “درجة أثر السخرية في نص من النصوص متناسبة تناسبا عكسيا مع عدد الإشارات الظاهرة اللازمة لتحقق هذا الأثر. على أن هذه الإشارات لا ينبغي أن تغيب كليا، بل يلزم أن تكون موجودة داخل النص لكي تهدي القارئ إلى القصد الذي شفّره الكاتب.”[4] وعموما فإن “السخرية الأكثر خفاء هي دائما الأجود. بعبارة أخرى فإن السخرية الأنجح هي التي تعتمد على أقل عدد من العلامات الدالة على وجودها.”[5]

وإذا كان فيليب هامون قد ميز داخل بنية التواصل السخري بين خمسة أقطاب هي: الساخر والمسخور منه (أو المستهدف بالسخرية) والساذج والمتواطئ وحارس القانون (الذي يمثل نظام القيم الذي يهاجمه الساخر)[6]، فإن باحثين آخرين اكتفوا بثلاثة أدوار أساسية هي: الساخر والمسخور منه والملاحِظ.[7]

والواقع أن المستهدف بالسخرية كثيرا ما يكون هو المخاطب، لاسيما في التخاطب اليومي، لكن قد يكون هو المجتمع بمختلف مؤسساته وتنظيماته وقيمه… بل قد يكون الساخر ذاته.

إن مقاربة السخرية في نص من النصوص تقتضي الاهتمام بالعلامات والقرائن الدالة على وجودها، والتي توجه المتلقي إلى التأويل الصحيح. وهذه العلامات والقرائن كثيرة ومتنوعة تمتد من نبرة الصوت والتنغيم والإيماء وتعابير الوجه في التواصل الشفوي المباشر إلى استعمال تقنيات بلاغية وأسلوبية وسردية… في الكتابة الأدبية. ويمكن إجمال هذه الأوسام الدالة على حضور السخرية في النص الأدبي فيما يلي:

بعض الرموز الكتابية وعلامات الترقيم: لقد دفعت صعوبة اهتداء المتلقي إلى الجانب السخري في الخطاب بعض الكتاب والباحثين أحيانا إلى التفكير في اقتراح علامات كتابية خاصة بالسخرية (علامة تعجب مقلوبة مثلا). لكن هذه الاقتراحات لم تلق نجاحا وشيوعا[8]، إذ غالبا ما اكتفي بعلامات الترقيم المعروفة مثل المزدوجتين وعلامة التعجب ونقط الحذف… كما يُلجأ أحيانا إلى استعمال الخط المائل (italique).

توظيف بعض الزخارف والتقنيات البلاغية والأسلوبية: كالتكرار والطباق والغلو والتناقض والمفارقة والمنطق المقلوب والتفسيرات الخاطئة والسخافات والمنطق العبثي والاختزال…

توظيف بعض تقنيات السرد: مثل التبئير والأسلوب غير المباشر الحر وتغيير منظورات الحكي والمقابلة بين وجهات النظر…

-ثم هناك القرائن المقامية التي تعتمد على الإشارات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي يفترض في متلقي السخرية القدرة على التقاطها وفهمها. ذلك أن قارئ السخرية ينبغي أن يكون عارفا بالوسط الاجتماعي والواقع التاريخي الذي يحيل عليه النص لكي يتمكن من تأويل البعد الساخر.

إن دراستي لجانب السخرية في رواية “قصة حديقة الحيوان” ستقوم على جرد المواضيع والظواهر التي سخر منها الكاتب، والوقوف على المؤشرات النصية والمقامية الدالة على السخرية، وإبراز كيفية اشتغال الخطاب الساخر في النص للخلوص إلى مساهمة السخرية في بناء دلالة الرواية وجماليته.

2-السخرية في رواية “قصة حديقة الحيوان

تطالعنا السخرية في “قصة حديقة الحيوان” بدءا من العنوان. فهذا العنوان يحتمل دلالتين: دلالة مباشرة وهي الإحالة على عنوان مسرحية إدوار ألبي، تلك المسرحية التي شكلت إعادة كتابتها وتمثيلها رهانا رئيسيا بالنسبة لشخصية رشيد. أما الدلالة غير المباشرة فيمكن أن تحيل على العالم الروائي الذي تنقله الرواية، وهو عالم مختل، أشبه بعالم الغاب أو بالأحرى بعالم الحيوان، يأكل فيه القوي الضعيف. وما يؤكد هذا التأويل هو ما ورد على لسان شخصية السيمو في آخر الرواية، لما اعتقلته الشرطة ليلا بصحبة رشيد وهما يعلقان ملصقات المسرحية في الحي. يقول رشيد وهما في ضيافة الشرطة: “السيمو بقي الليل كله وهو يغني بحال إلى جالس في شي عرصة. قلت ليه واش عرفتي فين احنا دابا؟ قال ليا في حديقة الحيوان…”[9]

فالعنوان إذن ذو دلالة مزدوجة، وهو يحمل في عمقه سخرية من هذا المجتمع الذي يصوره. فكأنما هو دعوة للقارئ لكي يقبل على التفرج على مشاهد من “حديقة حيوان”، وما فيها من وحشية واستغلال وجشع ونفاق…

إن المواضيع التي سخر منها الكاتب في الرواية كثيرة ومتعددة بحيث لا يتسع المقام للإحاطة بها جميعا. لذلك سأقصر حديثي على ثلاثة منها، وهي: الرياء والتدين الكاذب، سلوك وتصرفات المحسوبين على الفن، السلطة.

2-1-السخرية من الرياء والتدين الكاذب:

تحضر في النص شخصيات كثيرة تمثل الورع الديني الكاذب، وتعكس تناقضا صارخا بين مظهرها وخطابها من جهة، وحقيقتها من جهة ثانية. ولعل أبرز هذه الشخصيات هي شخصيات الشرفا. ولفهم السخرية من هذه الفئة، لا بد من معرفة وضعها الاجتماعي والثقافي في المجتمع المغربي. فهم أحفاد علي بن أبي طالب الذين استقروا في المغرب، وحظوا بالتقدير والاحترام والتوقير، وشكلوا سلطة روحية واقتصادية وسياسية، ولعبوا دورا محوريا في تاريخ المغرب. وقد ارتبطت صورة الشريف في المتخيل المغربي بالورع والتقوى. لكن الشرفا الذين يصورهم يوسف فاضل في روايته أبعد ما يكونون عن هذه الصورة. يحكي عنهم السارد خلال زيارتهم لبيت الحاج المامون بينما كان يستعد لحجته الثالثة: “الشرفا يحبون لحم الخروف والدجاج والسفة واللحم بالبرقوق واللوز والبيض المسلوق. يحبون لحم البقر بالجلبانة والقوق أو بالسفرجل . يحبون لحم الغنم المبخر والسفة بالقرفة. لا يغادرون البيت حتى يكونوا مروا على كل هذه المكرمات. يمتلئ البيت بالروائح الطيبة طيلة الخمسة عشر يوما الضرورية، وتظل البطون الأخرى تشتهي وتحلم بهذا الفيض من الروائح المهيّجة للمخيلة. الخياطون يصعدون ويهبطون بلا انقطاع. يكونون قد تحششوا سرّا حتى أصبحت  بطونهم ككرات خاوية (…) والأطفال يحومون حول المواقد في المطبخ، والشرفا يأكلون ويتجشؤون وهم يتحدثون حول الحجاز ومكة منى ورمي الجمرت…”[10]

السخرية واضحة في هذا المقطع. ففضلا عن التناقض بين ما تقتضيه المناسبة من استعداد ديني وتسام روحي وبين الطابع الاحتفالي الدنيوي المتمثل في الأطباق التي يسهب النص في استعراضها، هناك مفارقة بين ما ينتظر من الشرفا من زهد واقتصاد في الملبس والمأكل، وما يبدونه من إقبال شره على الملذات التي يسميها النص “مكرمات” إمعانا في السخرية. ذلك أن المكرمة في اللغة تدل على فعل الخير حين لا يكون واجباً وإنما أريحية وجوداً. والحال أن الشرفا الذين “يأكلون ويتجشؤون” لا تأخذهم الشفقة بأولئك الخياطين الفارغي البطون المقيمين في البيت، والأطفال الذين يتضورون جوعا. عوض ذلك يستغرقون في الكلام عن مناسك الحج كما لو أن الدين عندهم مختزل في بضعة طقوس فارغة. تضاف إلى هذا مفارقة أخرى تتمثل في إكرام الحاج المامون المقبل على الحجة الثالثة وفادة الشرفا، بينما يترك من يقيمون معه في البيت جياعا.

ومن مظاهر رياء الشرفا التي سخر منها الكاتب أيضا ما يتظاهرون به من كبرياء زائف. يقول السارد:

“أهدى الحاج المسجلة للشرفا بعد أن سبحوا الله للمرة العاشرة. فرحوا كثيرا بالهدية، ولكنهم لم يأخذوها معهم. الشرفا لا يمدون اليد أبدا. عندما سافروا أرسلوا واحدا من عبيدهم ليتسلم المسجلة. في الحجة السابقة أهداهم مذياعا (…) وبدل أن تلمس المذياع أيديهم الشريفة أرسلوا خادمهم الأسود ليحملها إلى مراكش وآسني، كما فعلوا بالنسبة للمسجلة والثلاجة والبوطاغاز.”[11]

التناقض واضح بين ما يقوله الشرفا عن أنفسهم وبين ما يفعلونه. فهم يزعمون أن كبرياءهم يجعلهم “لا يمدون اليد أبدا”، لكنهم بالمقابل يكادون يشحذون الهدية. وهنا لا بد من الإشارة إلى مضمر ثقافي خاص بالثقافة الشعبية المغربية يتمثل في أن مبالغتك في إبداء الإعجاب بشيء عرضه عليك المخاطب لتراه يفيد دعوة مضمرة لكي يتنازل لك عنه. ومن ثمة  فلا شك في أن تسبيح الشرفا الله “للمرة العاشرة” جعل الحاج المامون يفهم بأنهم يرغبون في المسجلة فتنازل لهم عنها. لكن “أيديهم الشريفة” لا يمكن أن تلمسها، لذلك بعثوا –كعادتهم- من يتسلم الهدية، وليس هذا المبعوث غير “أحد عبيدهم” أو “خادمهم الأسود”. فالشرفا ظلوا يملكون العبيد حتى عقد السبعينيات، مما يؤشر على أنهم يعيشون خارج التاريخ، وخارج التحولات التي عرفها العالم –ومنه المغرب- في النصف الثاني من القرن العشرين.

وبمقدار ما يبتعد الشرفا عن روح التدين الحقيقي، فإنهم يحرصون على الظهور بمظهر الورع، وإبراز علامات التقوى، إن على مستوى المظهر أو الكلام.

“ظلوا [الشرفا] يذكرون الله طول الطريق. يتحدثون عن مكة وزمزم ويذكرون الله. الشرفا مجللون بلحاهم البيضاء المدلاة على صدورهم في وقار، وكذلك الحاج المامون الذي أصبح مثلهم بعد أن عاد من حجته الأخيرة بنفس اللحية البيضاء الطويلة. لم تعد تشبه لحية علال الفاسي الخفيفة. شبر ونصف. لحية لا تقل وقارا عن لحى الشرفا. السيمو يسوق السيارة برزانة تليق بالموكب المهيب المسافر إلى جباله النائية. لحية السيمو صهباء وبنفس الكثافة. نزلوا في سطات ليشربوا كأس شاي ويبولوا في الخلاء. العابرون ينظرون إليهم بنفس الخشوع الذي في صدورهم. السيارات كأنما يخرج منها النور. في السيارة استمروا يتحدثون حول مكة وزمزم والحجاز أو يقرؤون اللطيف وهم يحركون في أيديهم سبحاتهم الكبيرة.”[12]

من بين القرائن الدالة على السخرية في هذا النص، هناك التكرار، إذ أشير إلى إكثار الشرفا من الذكر والحديث عن مكة وزمزم مرتين، كما أشير إلى اللحى البيضاء الطويلة مرتين. يضاف إلى ذلك استعمال المبالغة الواضحة في الإشارة إلى طول لحية الحاج “شبر ونصف”، والربط بين أمور لا رابط بينها (الإشارة إلى التناسب بين طول اللحية ودرجة الوقار) والتضخيم “سبحاتهم الكبيرة”. وهي كلها علامات المقصود منها إظهار الورع الزائف، ورع يتقابل بطبيعة الحال مع حقيقتهم وحقيقة الحاج المامون التي اكتشفها القارئ في الصفحات السابقة.

يضاف إلى ما سلف أن النص يحضر فيه صوتان: صوت السارد الذي ينقل الوقائع ويصف الشخصيات من منظوره، ويصدر عليها أحكام قيمية من قبيل وصف اللحى المدلاة بـ”الوقار”، والموكب بـ”المهيب”، وهي أحكام لا يحتاج القارئ إلى كبير فطنة ليدرك أن المقصود بها ضدها. ثم هناك الصوت الثاني، وهو صوت العابرين الذين ما زالوا ينخدعون بتقوى الشرفا وقداستهم، فتراهم ينظرون إليهم بـ”خشوع” حتى وهم يتبولون في الهواء الطلق، بل يتوهمون أن سياراتهم “يخرج منها النور”. إن ازدواجية الصوت هذه لا تسمح للكاتب بالسخرية من الشرفا وحدهم بل حتى من أولئك الذين ما زالوا يؤمنون ببركتهم.

وتبلغ السخرية من الشرفا مداها حين نراهم يكشفون عن جشعهم، ويتخلون عن كبريائهم الزائف عند نقل جثمان حسن الميكانيسيان إلى مسقط رأسه. ذلك أنهم تحملوا: “مشقة التنقل لمعاينة الجثة (…) ولحسن الحظ اعتبروا دفن الميكانيسيان في بلدته وجهة نظر سديدة وحكيمة. وبينما تكلّف بعض المتطوعين من الذين ما زال دفتر حسناتهم هزيلا بنقل الجثة خارج البيت، اقتحم الشرفا الخزين ونهبوه. أخذوا الزرابي والمانطات وثلاجة وتلفزة ما زالت في علبتها. كل ما وقعت عليه أيديهم الشريفة. ملؤوا جوانب سيارة الموتى التي جاءت لنقل الميت بالصناديق والسلال…”[13]

لا تكمن السخرية في هذا المقطع في التعارض بين مقام الشرفا الديني والروحي في المتخيل الشعبي وبين ما يقومون به من نهب فحسب، بل وفي سلوكهم اللاإنساني الأرعن في أجواء الجنازة. فعوض أن تذكرهم الجنازة بالموت، وتنسيهم طمعهم وتهافتهم، نراهم يملأون السيارة التي تقل الميت بما نهبته “أيديهم الشريفة”.

لم يوجه الكاتب نبال سخريته إلى الشرفا وحدهم، بل وجهها أيضا إلى أولئك الأشخاص الذين يتصنعون الورع، ويستغلون مناصبهم للإثراء غير المشروع، مسوغين ما يقترفونه باللعب على التسميات. فهذا مرآب الحاج بلال، صديق الحاج المامون، مليء بصناديق البطاطس والطماطم. “… لم يكن يسرقها من المستشفى. لا، كان يسمح للناس بالدخول لزيارة مرضاهم في أوقات غير أوقات الزيارة. يدخلون من هذا المرآب المعتم ليقصدوا المستشفى ولا ينسون وهم يمرون بهذا المكان أن يتركوا صندوق طماطم أو جزر أو سفرجل، حسب السوق والموسم. ذلك أن الحاج بلال لا يأخذ النقود لأنها حرام عند الله. فقط صناديق الطماطم والبطاطس والسفرجل. وأحيانا علب حليب أو أكياس عدس. لا بأس، حسب جود الزائرين وأريحيتهم. أي حكمة وراء هذا؟ إنه يعتقد جازما ومؤمن إيمانا قويا أن هذه الخضر وهذا العدس أو الأرز أو الفول ليست رشوة…”[14]

تنبع السخرية في هذا المقطع في المقام الأول من تجاور ثلاثة أصوات: صوت المتكلم الغائب الذي يعتقد أن الحاج بلال يسرق الصناديق من المستشفى، وصوت السارد الذي ينفي هذا الاعتقاد ويتظاهر بأنه يبعد عنه تهمة السرقة، ويصدق ما يتذرع به الحاج. ثم هناك صوت الحاج المقتنع بأن ما يُقدّم له ليس رشوة بما أنه ليس نقودا. فأخذ النقود “حرام عند الله”، أما ما عداها فحلال. هذا فضلا على أنه لا يلزم الزائرين بشيء. فهم إنما يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم حسب جودهم و”أريحيتهم”. فالرد على الصوت الأول الصائب –إن لم يكن الحاج بلال يسرق المستشفى، فهو يسرق زواره- بمغالطة مستمدة من كلام الحاج بلال تسوغ تلقي الرشوة تخلق مسافة تجعل الأثر الساخر أحدّ وألذع.

2-السخرية من المحسوبين على الفن:

من الفئات التي استهدفتها سخرية الكاتب في هذه الرواية، نجد أولئك المحسوبين على الفن من ممثلين ومخرجين ومغنين… ينتقد سخافتهم وضحالتهم وانتهازيتهم… فهم لا يتورعون عن استعمال أكثر الوسائل دناءة لتحقيق الشهرة الزائفة، وبلوغ المنافع المادية التافهة. فنحن نجدهم في الرواية مثلا يضربون أطنابهم أمام قصر الأمير بمدينة سلا لعلهم يحظون بالتفاتة منه. نقرأ في الصفحة 90 من الرواية:

“كانت تحدث أشياء غريبة في تلك الفترة. كان الممثلون والمغنون ومن لهم صلة بهذا الموضوع يتراكمون أمام باب بيت الأمير من أجل الحصول على كريمات سيارات أجرة أو حافلات. ممثلون ومغنون فقراء معدمون ذهب أغلبهم يشحذ أمام باب الأمير. أذكياء ماكرون هؤلاء الفنانون. لم يشحذوا خبزا أو عملا، رخص طاكسيات أو حافلات تسافر حتى أكادير طلبوا. دفعة واحدة. يريدون أن يصبحوا كالتجار والملاكين وأصحاب المداخيل القارة. دخل قار ولا عمل…”[15]

يخلق السارد، ومن خلفه الكاتب، مسافة مزدوجة بينه وبين هؤلاء الفنانين: من حيث الزمن (في تلك الفترة)، ومن حيث الشيوع والتردد (أشياء غريبة)؛ مسافة ستسمح له بالسخرية منهم. وقد توسل في سخريته هذه بآليات متعددة ومتباينة. فعلى مستوى البناء اللغوي للنص  نجده يستعمل فعل “تراكم” التي تستعمل لتكدس الأشياء للدلالة على “احتشاد الممثلين”، وهو ما يتناقض مع صفة “الذكاء” التي أضفاها عليهم. كما استعمل التقديم والتأخير، إذ قدم الخبر في جملة “أذكياء هؤلاء الفانون”، وقدم المفعول في “رخص طاكسات… طلبوا.” ومعلوم أن تقديم عنصر في الجملة يعني العناية به أكثر. فكأن الكاتب يريدنا أن نلتفت إلى أن صفة الذكاء التي أطلقها عليهم إنما قصد بها السخرية، لأنها لا تتناسب مع التفاوت بين فعل الشحاذة وموضوعها. فالشحاذ يشحذ في العادة ما يسد به الرمق، أما الممثلون فيشحذون “رخص طاكسات”. يضاف إلى هذا أن الكاتب في هذا المقطع استغنى عن الروابط اللفظية بين الجمل، وعول على الروابط المعنوية معززا بذلك التواطؤ بينه وبين القارئ.

ويسترسل السارد في السخرية من هؤلاء الفنانين قائلا:

“منذها انتظمت حرفة الانتظار أمام قصر الأمير. اتسعت آفاق الممثلين فجأة. أصبح بمقدورهم أن يحلموا. أن يروا الثراء على مشارف بؤسهم المنذر بالانتهاء. هجروا أهلهم وذويهم وتربصوا تحت حائط الأمير (…) لسنوات يأكلون ويشربون وينامون ويكبرون ويتوالدون تحت أشجار البلوط المواجهة لباب قصر الأمير، ويحلمون بالورقة التي سيأخذون من يد الأمير لينتهي بؤسهم. يجلسون، يتحدثون حول أصدقائهم الذين فازوا. أصبحوا يرتدون الكوستيم الرمادي الجديد ويجلسون في المقهى ويدخنون المارلبرو، ويتكلمون في السياسة ويراقبون طاكسياتهم وهي تجوب الشوارع وتجمع رزقهم ورزق أولادهم. الآن بمستطاعهم أن يتكلموا في السياسة. بمستطاعهم أن يصبحوا سياسيين. كل شيء بمستطاعهم الآن. أخيرا. الحمد لله…. بمستطاعهم الآن أن يهتفوا بحياة الأمير ويؤيدوا سياسته ويسبون المسرح والفرق المسرحية (…) يتكلمون عن الديمقراطية أيضا. ولم لا؟ نحن في بلد ديمقراطي يقولون…”[16]

لعل ما يلفت الانتباه في هذا النص هو تكرار كلمة “أمير” مضافة إلى ألفاظ متعددة. وإذا كان بعضها يناسبها مثل لفظة “قصر” و”يد” و”حياة” فإن بعضها الآخر يخلق أثرا ساخرا مثل كلمة “حائط”. ومن التقنيات المستعملة في هذا المقطع كذلك نجد المبالغة. وهي تتجسد في عبارة “حرفة الانتظار” كما تتجسد في الفترة التي يقضيها الممثلون وهم ينتظرون بحيث أنهم “يأكلون ويشربون ويكبرون ويتوالدون” فيها.

أما من الناحية السردية فتنبع السخرية من تعدد الأصوات من جهة، ومن والتقابل بين الحاضر والمستقبل، بين الحلم والواقع. ففيما يتعلق بتعدد الأصوات يمكن التمييز في النص بين ثلاثة أصوات: صوت السارد الذي ينقل وقائع تافهة بأسلوب جاد “انتظمت حرفة الانتظار، اتسعت آفاق الممثلين فجأة…” ثم هناك صوت المنتظرين الذين يتحدثون عن أصدقائهم الذين حالفهم الحظ وفازوا بالهبة، ويذكرون آثار النعمة التي ظهرت عليهم، والتحول الذي طرأ في حياتهم. وداخل هذا الصوت نسمع صدى صوت الفائزين أنفسهم الذي يحمدون الله على وضعهم الجديد، ويستعرضون الامتيازات التي يخولها لهم. هذا الصدى الذي يفصح عن نفسه في نهاية المقطع “نحن في بلد ديمقراطي يقولون.”

ويتعزز هذا التقابل الصوتي بتقابل آخر بين الحاضر والمستقبل، وبين الواقع والحلم. فحاضر الفائزين وواقعهم –لنلاحظ كلمة الآن التي تكررت ثلاث مرات- هو مستقبل المنتظرين وحلمهم المنشود، وهو حلم قائم على مفارقة. ذلك أن هؤلاء الفنانين عوض أن يتفرغوا للفن بعد أن تحسنت أوضاعهم المادية و”لم يعد يشغلهم بحث عن عمل”، نراهم “يسبون المسرح والفرق المسرحية”، ويحاولون التسلل إلى السياسة لعلهم يحققون فيها مزيدا من المكاسب والمنافع.

وإذا كانت الرواية قد سخرت من انتهازية المحسوبين على الفن، ومن ضحالة تفكيرهم، فإنها سخرت أيضا من لؤم بعضهم وخستهم. فهذا “رشيد فتح حسابا في البنك الشعبي، واشترى كوستيمين من شارع محمد الخامس، وبدا من الخارج كواحد وصل إلى درجة عالية من التوازن. ولكن الله وحده يعلم ما تمور به دواخله. ثم بدأ ينظّر للمسرح ويقيم ندوات ويكتب بيانات، ويلقي قصائده في الجامعات تخليدا لذكرى مناضلين استشهدوا أو سائرون على درب الاستشهاد. يسافر ويسافر، ويلقي قصائده المتحمسة، ويرفع تقاريره إلى الشتوكي…”[17]

إن قراءة متمعنة لهذا النص تظهر أنه كسر مبدأ من مبادئ الانسجام الخطابي، إذ لا علاقة منطقية بين فتح حساب في البنك والعناية بالمظهر وبين التنظير للمسرح وإقامة الندوات وكتابة البيانات… اللهم إذا كان الأمر يتعلق بالتنكر في ثوب المثقفين، والاندساس بينهم، وهذا هو ما تؤكده وقائع الرواية. ففي الوقت الذي يقوم فيه بذلك النشاط الفكري والثقافي الدؤوب، ويكرم الشهداء، فإنه يرفع تقاريره الاستخباراتية إلى الشتوكي، رجل المخابرات، فيرسل بذلك بعض المثقفين المناضلين الأحياء إلى “درب الاستشهاد”.

إن النبرة الممجدة التي يتحدث بها السارد عن سيرة رشيد تخفي من ورائها نية ساخرة لاذعة.

3-السخرية من السلطة:

لطالما استعملت السخرية سلاحا خفيا لانتقاد السلطة ومهاجمتها عبر الضحك منها، لاسيما في الأنظمة المستبدة التي تكبت حرية التعبير ولا تسمح بالرأي المخالف كما هو الشأن بالنسبة للنظام الذي كان سائدا في الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، وهي الفترة التي اشتهرت مؤخرا في المغرب بـ”سنوات الجمر والرصاص”. وتنبغي الإشارة إلى أن كاتب الرواية قد نال حظه من القمع الذي كان سائدا حينئذ، إذ اعتقل وعذب بسبب كتاباته وأفكاره. لذلك فلا غرابة أن نجده يسخر من السلطة ورموزها في روايته هذه.

ونظرا لتعذر الوقوف عند كل المواقف الساخرة من السلطة التي تضمنتها الرواية، فإنني سأقتصر على تحليل مقطعين فقط، يسخر أولاهما من خوف رجال المخزن وارتعابهم من الملك بينما يسخر الثاني من تمثل الإنسان المغربي للديمقراطية وحقوق الإنسان في بلد ديمقراطي هو فرنسا، وتصرفاته المضحكة انطلاقا من ذلك التمثل.

ورد النص الأول في سياق الحديث عن تداريب الفنانين بمركز المعمورة على الملحمة الجاري إعدادها للاحتفال بعيد العرش؛ إذ بينما كانوا منهمكين في التداريب، جاءهم نبأ زيارة الملك للمركز الواقع في الغابة. وفي اليوم المحدد للزيارة: “جاء وزير الثقافة جارا وراءه عددا كبيرا من موظفي وزارته. كانوا كلهم يلبسون البدلة السوداء. أصبح المركز أشبه بعش غربان كبير. احتكر الوزراء جميع المراحيض وبات على الموظفين الآخرين، بما فيهم الكتاب العامون ومديرو الدواوين أن يبولوا ويتبرزوا تحت الشجر وخلف جدران الشاليهات. وزير الصناعة التقليدية كان يعرف طقوس المخزن، فجاء مسرولا. (يبول ويتبرز في الخرق التي وضع تحت سرواله) بانتظار أن تمر الزيارة الملكية بخير. ولكن لا أحد يعرف متى سيحضر الملك(…)

تأكد في السادسة أن الملك لن يحضر. كان بعض الموظفين قد بالوا في سراويلهم وتبرز وزير الصناعة  التقليدية أكثر من مرة لأنه مرتاح في خرقه…”[18]

تنبع السخرية في هذا المقطع أولا من انقلاب الأدوار. فالوزراء والموظفون السامون الذي يشكلون جزءا من سلطة الدولة، ويحظون بالمهابة من لدن أفراد الشعب، نجدهم هنا في قمة الخوف والارتعاب، يتجرعون أقسى أشكال المهانة والإذلال، بحيث أنهم يتبولون ويتبرزون في ملابسهم قبل حتى أن يصل الملك. وتبلغ السخرية مداها حين يخبرنا السارد بأن وزير الصناعة التقليدية يستعد لهذا الموقف أحسن استعداد بحكم ذكائه وخبرته بـ”طقوس المخزن”، فيتسرول بالخرق ويتمكن من التبرز في سرواله وهو “مرتاح” من دون أن يتفطن إليه أحد.

أما النص الثاني الذي سأقف عنده فورد في سياق وصول السيمو إلى باريس ونزوله بغرفة التونسي. إذ بينما كان ينتظر عودته، اقتحم عليه الغرفة عنصران من الشرطة معتقدين أنه هو من سرق أغراض رجل أسود زعم أنه يسكن في غرفة مجاورة، لكنهما بعد أن تأكدا من هويته، وعرفا أنه وصل من توه إلى العمارة، انصرفا بعد أن صادرا منه كتابا لستانيسلافسكي ادعى الأسود أنه كتابه. فلما عاد التونسي مساء، وأخبره سيمو بالواقعة فـ”ارتدى بدلة بيضاء ودهن شعره حتى بدا كقواد جديد على الحرفة. ذهبا إلى الكوميسارية. بدأ التونسي بالهجوم على الشرطة. إنه يعرفهم جيدا. كيف يجرؤون على الدخول على امرأته في غيابه. اختلط الأمر على المفتشين عندما اعتقدا أن السيمو هو امرأته. لا، معذرة، زوجتي كانت في البيت، وقد تكون خرجت قبل وصول رجالكم، ولكن ليس هذا مبررا. لأنه من المفروض أنها في البيت، وفي هذه الحالة ما كان عليكم أن تقتحموا بيتا فيه نساء في غيبة رب البيت. وقد تحمس التونسي لهذه البداية الموفقة، فاستمر في تقريع الشرطة جميعهم، الواقفين والمارين. لا ينسى أحدا. إنه في بلاد حقوق الإنسان، وعليكم أن تعطوا المثل قبل أن تعطوا الدروس للآخرين. أما إذا كنتم تتعاملون مع نسائكم بهذه الطريقة، وتقتحمون عليهن خلواتهن في أي وقت، فنحن قوم لا نشبهكم. لنا ديننا وتقاليدنا. ويبدو أن الكسوة الجديدة التي ارتدى التونسي فعلت فعلها. إنه يعرف ما يقوم به هذا التونسي. يعرف البوليس الفرنسي ويعرف كيف ينبغي التعامل معه. لكن التونسي يعرفهم. قضى بينهم سنوات كافية ليعرف من أين يسل الخيط الذي يشد بنيانهم المضعضع… استمر في التأنيب صارخا مهددا رافعا قبضتي يديه في وجه الشرطة الفرنسية بتاريخها ونياشينها.”[19]

تتحقق السخرية في هذا المقطع من خلال تداخل ثلاثة أصوات: صوت الراوي الذي ينقل الوقائع محافظا على مسافة بين وبين شخصية التونسي، مسافة تمكنه من خلق الأثر الساخر. يبدو ذلك واضحا في تشبيه المظهر الذي اتخذه التونسي للذهاب إلى الشرطة بـ”قواد جديد على الحرفة”، وتفسير استئساده عليهم بـ”الكسوة الجديدة” التي “فعلت فعلها”. الصوت الثاني هو صوت التونسي الذي ينقله السارد بالأسلوب المباشر الحر، ناقلا كلامه حرفيا تارة، وومحكيا أخرى بحيث يلمس القارئ أن الغاية التي يتوخاها من الهجوم على الشرطة هي الظهور بمظهر البطل أمام السيمو، واتخاذه شاهدا على بطولته الدونكيشوطية بقهره لجهاز ما كان يجرؤ على أن يرفع عينيه في أمام أبسط موظف من موظفيه لو كان في المغرب. كل ذلك باسم الدين والتقاليد والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومما يزيد الموقف سخرية هو أن القارئ عرف في الصفحات السابقة أن المرأة التي يتحدث عنها التونسي، ويتهم الشرطة باقتحام خلوتها، فرنسية ظلت تجوب الغرفة عارية تقريبا عند وصول السيمو، غير عابئة بوجوده. أما الصوت الثالث فهو صوت السيمو الذي ينظر للتونسي نظرة إعجاب لأنه “يعرف البوليس الفرنسي ويعرف كيف ينبغي التعامل معه” بحكم أنه “قضى بينهم سنوات كافية…” على أن الواقع هو عكس ذلك. فتصرفات التونسي تشهد على أنه لا يعرف شيئا عن المجتمع الذي يستضيفه، وعن مؤسساته رغم الفترة التي قضاها في فرنسا، وأنه ما زال يتعامل انطلاقا من تمثلاته الخاطئة وأفكاره المتخلفة.

هكذا نخلص إلى أن السخرية في هذه الرواية شكلت مكونا هاما من مكونات بنيتها الفنية والجمالية، تنشر خيوطها في نسيجها اللفظي والأسلوبي والسردي بحيث أبعدت نمط كتابتها عن المرآوية الساذجة والنسخ المباشر للواقع، وخلقت نوعا من التواطؤ بين الكاتب وقارئه. على أنه تلزم الإشارة إلى أن سهام السخرية لم تستهدف أمراض المجتمع، والأعطاب الموجودة في مؤسساته ومعتقداته وتمثلاته وقيمه، بل تتوجه أحيانا إلى القارئ ذاته، لاسيما حين يتنبه إلى أن النص يفضح عيوبه هو أيضا، ويعري تناقضاته الدفينة، ويسلط الضوء على بعض سلوكاته المنتشية ببلادتها. ورد في الرواية عن استعمال الإنسان المغربي لمنبه السيارة: “في التاسعة صباحا تبدأ المنبهات. في العاشرة تتسع رقعتها وتعلو حدتها حتى لتقول إنها هابطة من السماء. وبعد الحادية عشرة لا تتوقف… مائة وخمس وتسعين كلاكسون في أقل من عشر دقائق… بعد أيام قليلة تعلم [السيمو] رموزها… كلاكسون باش تخلّي السائق الآخر يدوز وكلاكسون باش يخليك تدوز، وكلاكسون حيت خليتيه يدوز، وكلاكسون حيت خلاك تدوز، وكلاكسون باش يقول ليك شكرا، وكلاكسون آخر للسيد اللي قدامو، وكلاكسون ديال الآخر اللي بحرا جاي… هدي الكلاسكونات المزيانة. الضريفة الساهلة اللي ما فيها مشاكل. وهي قليلة مقارنة مع الكلاكسونات القبيحة. كلاكسون باش تحيد من الطريق، وكلاكسون باش يقول ليك الطريق ماشي ديال اباك، وكلاكسون حيت ما خليتيهش يدوز، وكلاكسون باش يقول ليك ألحمار، وكلاكسون باش يقول ليك انت هو الحمار، وكلاكسون باش يقول ليك إلى ما سكتيش نهبط نخلي دار بوك، وكلاكسون كايقول ليك إلى قدرتي انزل. وفي الحصيلة مائة وخمسة وتسعين كلاكسون في عشر دقائق.”[20]

أي سائق مغربي يقرأ هذا النص ولا يخجل من نفسه؟!


· يوسف فاضل: قصة حديقة الحيوان، الفنك، البيضاء 2008، ص.366.

·· بعد الخنازير (1993) وأغمات (1989) وسلستينا (1993) وملك اليهود (1996) وحشيش (2000) ومترو وموحال (2006).

[1]-L’ironie aujourd’hui : Lecture d’un discours oblique, Etudes réunies par Mustapha Trabulsi, Presses universitaires de Blaise Pascal, 2006, p.11.

[2] -Linda Hutcheon : Ironie, satire, parodie ; Poétique n° 46, 1981, p.153.

[3]-Philippe Hamon : L’ironie littéraire : essais sur les formes de l’écriture oblique, Paris, Hachette 1996, p.71.

[4]-Linda Hutcheon : Ironie, satire, parodie, op.cit p.144.

[5]-Pierre Schoentjres : Poétique de l’ironie ; Paris, ed Seuil, Coll. Points 2001, p.158.

[6]– Philippe Hamon : L’ironie littéraire : essais sur les formes de l’écriture oblique, op.cit p.122/126.

[7]– Pierre Schoentjres : Poétique de l’ironie, op.cit, p.185.

[8]– Pierre Schoentjres : Poétique de l’ironie, op.cit p.162/163.

[9] -يوسف فاضل: قصة حديقة الحيوان، ص.365.

[10] -قصة حديقة الحيوان، ص.50/51.

[11] -قصة حديقة الحيوان، ص.52.

[12] -قصة حديقة الحيوان، ص. 79/80.

[13] -قصة حديقة الحيوان، ص.269.

[14] -قصة حديقة الحيوان، ص.255.

[15] -قصة حديقة الحيوان، ص.90.

[16] -قصة حديقة الحيوان، ص.91/92.

[17] -قصة حديقة الحيوان، ص.207.

[18] -قصة حديقة الحيوان، ص.267.

[19] -قصة حديقة الحيوان، ص. 122/123.

[20] -قصة حديقة الحيوان، ص.355/356.

وثيقة كتابة التاريخ نموذج “التاريخ المقارن لآداب اللغات الأوروبية” المبادئ والتنظيم بقلم: جان ويسجيربر ترجمة محمد التهامي العماري

يُقدَّم التاريخ المقارن الذي أصدرته الجمعية الدولية للأدب المقارن سنة 1967 باعتباره نظرة شمولية [للموضوع]. وقد ظهرت منه إلى حد الآن ثمانية أجزاء هي: الانطباعية باعتبارها ظاهرة أدبية دولية (1973)، والحركة الرمزية في أدب اللغات الأوربية 1984-1982، ومنعطف عصر الأنوار (1760-1820) (الأنواع الشعرية) (1982)، والإرهاصات الأدبية في القرن العشرين؛ في جزأين (1984-1986)، والكتابة باللغات الأوروبية بإفريقيا جنوب الصحراء ؛ في جزأين (1986)، وميلاد روح جديدة (1400-1480). يقترح هذا التاريخ من خلال ثلاثين جزءا، يتكوَّن كل واحد منها من ستمائة (600) إلى سبعمائة(700)صفحة، محررة إما بالفرنسية أو بالإنجليزية، إعادة رسم التحولات الكبرى التي عرفتها آداب اللغات الأوروبية منذ نهاية العصر الوسيط إلى حدود القرن العشرين. وبقدر ما يروم هذا التركيب أن يكون متعمقا، فهو يستهدف أيضا أن يكون رحبا؛ بحيث يستند إلى التحليل الدقيق لأكبر عدد ممكن من المعطيات. وبالتالي فهو ليس لا كتابا مدرسيا يهتم بالخطوط العريضة ولا مونوغرافية أو بحثا مدققا. تمتاز عروض [المشروع] بمعرفة موسوعية، وتتسم المواضيع المعالجة بطابعها العام. وبالنظر إلى اقتصار الكتاب على آداب اللغات الأوروبية، فقد أدمج ضمن حقل اشتغاله المؤلفات الإفريقية والآسيوية المكتوبة بهذه اللغات. يتمسك هذا المشروع، الذي يرفض أي مركزية أوربية، بالتقاليد الأوربية بوصفها مجالا لاشتغال كفاءاته المخصوصة.

التساؤل

من الضروري تأكيد الطابع الإشكالي للمشروع؛ إذ هي المحاولة الأولى من نوعها في مجال الإسطوغرافية المقارنة. وهي في نفس الآن جماعية ودولية، فضلا عن كونها متعددة المعارف فيما يخص منهجيتها وتعتمد التساؤل. يصوغ التاريخ المقارن، الذي يسائل باستمرار مناهجه وطرائق تطبيقها، أجوبة تستدعي بدورها أسئلة جديدة. وهكذا يجترح التاريخ المقارن تسلسل المعرفة بطريقة استقرائية.

تبين أجزاء هذا التاريخ المقارن وضوح اختياراته النظرية والمنهجية. كما أنه يدعو إلى الحوار من خلال اختياراته التأويلية، وبالتالي فهو يفيد في مد يد العون للباحثين المقبلين وينمي لدى القارئ الحس النقدي وطرح السؤال بغض النظر عن نتيجة ذلك.

المقارناتية في مواجهة تواريخ الآداب الوطنية

حدد هنري روماك (Henri Remak) بشكل جلي الأفكار الرئيسة للمجموعة في التوطئة، مستهلا ذلك بدوليتها:

“يجب أن يتم استكمال التواريخ الأدبية الخاصة بشعب ما أو بأمة أو بلغة ببحوث تروم تنظيم الظواهر المشتركة أو القابلة للمقارنة من خلال منظور دولي.”

فالتواريخ الأدبية الوطنية تمتاز عادة باشتغالها أو تقطيعها المزدوج، في حمولتها أو موضوعها وأيضا في تنظيمها. وبالنظر إلى كون هذه التواريخ الأدبية الوطنية تخصص حصريا للآداب الألمانية أو الفرنسية أو السويدية مثلا، فهي تقتلعها- بمقتضى معيار سياسي لغوي- من المجموع المشكل للأدب الكوني. ومن ثم، تُحِل المقارناتية نظرتها الكلية مكان المنظور الفردي والذري [لتواريخ الآداب الوطنية]؛ حيث ترمم السياق الذي تندرج فيه الموضوعات المنعزلة وتتغيى تحقيق معرفة تتعالى على تباين اللغات والدول والأمم، وبالتالي فهي تلبي طموح العلم في الكونية والتوحد.

يوجد هذا التقسيم في تأليف التواريخ الوطنية نفسها، عندما يتخذ العرض ،في أغلب الأحيان، شكل مونوغرافيات، مختلفة ومتجاورة، حول حياة الأفراد ومؤلفاتهم؛ بحيث يتم تجميعها وفق معيار معين قد يكون العصر أو التيار أو النوع. ويمكن لتاريخ جيد للأدب الألماني أن يستعرض في إطار الغنائية الانطباعية إيلز لاسكير- شولر (Else Lasker-Schuler)  فـإرنيس ستادلر  (Ernst Stadler) ثم جورج هيم  (Georg Heym)…وفي مقابل هذا نجد في الانطباعية باعتبارها ظاهرة أدبية دولية        ( التاريخ المقارن، ج I) أن خصيصة معينة من خصائص هؤلاء الكتاب لن تستحضر إلا من أجل تدعيم خلاصات تركيبية. وبناء عليه، هل تعتبر الانطباعية أسلوبا أم هي رؤية للعالم؟ أم أنها تحدد الخلفية الفلسفية للحركة وتقدم بانوراما للتأثيرات الأجنبية في ألمانيا ولعلاقاتها مع الفنون الجميلة. وبالتالي، لا تستهدف هذه السلسة تقطيع المتن الأدبي بحسب التواريخ الفردية للكتابة، وإنما تروم تقطيعه وفق المقارنات التي يمكن أن نقيمها بين النصوص، بصفة عامة، تبعا للعناصر القابلة للمقارنة، سواء كان الأمر يتعلق بنتائج المؤثرات أو بالتناغم الجمالي والشكلي والموضوعاتي والفلسفي والسوسيولوجي الخ. وبالنظر إلى رفض هذا التاريخ أن ينظر إلى الرجال واللغات نظرة انعزالية، فهو يعيد الاعتبار لأوجه ائتلافهم ومكامن اختلافهم، وكذا للعلاقات التي ربطت بينهم في الواقع؛ بحيث يؤسس بعدا هاما يتجلى في إقامة تواصل بين الأطراف بشكل يجعلها متسلسلة؛ بل مستمرة.

لكل هذه الأسباب يأتي التاريخ المقارن من أجل استكمال خطاب التواريخ الأدبية الوطنية عوض الحلول مكانها؛ إذ كل توجه يغني الآخر. وباعتبار اللغة أداة للأدب نفسه، فهي تحدد تاريخه، وبالتالي سيكون من العبث نفي تنوعها. إذن، تسانِد التواريخ الوطنية التاريخ المقارن بقوة؛ بحيث يستحضرها بشكل مستمر لغايات توثيقية خاصة في مجالات لازالت ملتبسة. وهكذا، فإن فهم الكل يقتضي فهم أجزائه؛ ذلك أن المقارناتية الإجمالية التي يطمح المشروع إليها تقتضي معرفة عميقة بالتقاليد الخاصة.

الدولية وعمل الفريق

        لا يعني أن يكون الأفق العام [للمشروع] دوليا تجرد المتعاونين من أصولهم وخصوصيات تربيتهم ووسطهم؛ إذ يكمن المطلوب منهم فقط في إقامة مسافة بينهم وبين عاداتهم الفكرية والتمثلات المحلية المتوارثة المسلم بها والمفروضة عليهم، كما يطلب منهم على وجه الخصوص تنسيب إعجاب كل واحد منهم، والذي يكون غالبا بصفة لا واعية، بأدب (أو أكثر) على حساب الآداب الأخرى الأقل انتشارا مثلا. نفس الشيء يقال عن المفاهيم التي يستعملها كل واحد منهم في أبحاثه؛ ففي الوقت الذي كانت فيه “الواقعة السحرية” معروفة بألمانيا وإيطاليا وفلوندر وأمريكا اللاتينية، كانت شبه مجهولة بباريس أو بلندن. وتبعا لكل هذا، تحيل الدولية إلى توسيع للأفق الفكري وتنمية للعدة النقدية وتجويدها؛ وهذا يعني أن الدولية تحيل إلى ذلك المجهود الفردي الواقعي الذي يُيَسره عمل المجموعة:

“…. لا يمكن لأي باحث تقريبا، أن يبحث بمفرده في الوقائع بأكملها، بل من الأفضل منذ الآن، أن يتم الاستناد إلى فرق محكمة التنظيم ينتمي عناصرها إلى جنسيات مختلفة” ( التوطئة).

لا يتعلق الأمر بمجرد إضافة أفراد فقط، بل إنه يرتبط بإقامة توافق حقيقي وبشكل مسبق حول الأهداف المتوخاة والوسائل المتيحة لتحقيقها. وبالتالي، يتم قطع الصلة مع الفردانية التي هيمنت طويلا في مجال الأبحاث الأدبية لصالح فلسفة للحوار. فقد نوقشت كل مشاريع التاريخ المقارن من خلال تخمينات مستمرة، وذلك في إطار ندوات ونقاشات تحضيرية استندت إلى استمارات وشبكات قبل أن تتحقق، في نهاية المطاف، على شكل تصميم “مفتوح” قدر الإمكان، وفي فرضيات مشتركة قابلة للتعديل والتصحيح. وتشهد على هذا العمل الجبار الخفي منشورات مهمة في  (Neohelicon)  و (Synthesis) ومجلة جامعة بروكسيل (Revue de l’Université de Bruxelles) ، وأيضا في سلسلات من قبيل دفاتر التاريخ الأدبي المقارن ( comparée (Cahiers de l’histoire littéraire ومنشورات جامعة أوتريخت في الأدب العام والمقارن (Utrecht Publications in General and Comparative Literature).وقد ساهمت هذه المنشورات، التي كانت تستهدف أفكارا جديدة، بشكل كبير في توسيع مادة اشتغالنا.

بديهي أن الصعوبة الكبرى تكمن في بناء تصميم منسجم يحتضن عشرين أدبا، ويعتبر مقبولا وقابلا للتطبيق من لدن شريحة واسعة من خبراء المجموعة الدولية. ويبدو أن اختيارين أساسين يبرزان هنا، وهما:      إما تجزيء المشروع إلى أقسام تبعا للموضوعات، غير أننا نخاطر في هذه الحالة بالسقوط من جديد في ذرية تذكرنا بالتواريخ الوطنية. وإما الانطلاق من أبحاث دقيقة تنكب على كل أدب من الآداب الوطنية المزمع دراستها، قبل تجميع المعلومات المحصل عليها من منظور مقارناتي عبر عملية إعادة كتابة متناهية الدقة.  غالبا ما يتم الجمع، على المستوى العملي، بين المنهجين معا؛ ذلك أن المجموعات الموضوعاتية تتطلب استكمالها من خلال تركيبات وصلات عابرة للآداب الوطنية. غير أن هذا لا يحول دون إبراز الأدوات ذات الأصول الوطنية.

تبرهن ممارسة التاريخ والنقد الأدبي بجلاء انعدام حلول كونية سواء في هذه المجالات أو في غيرها. ومن نافلة القول أن نؤكد، حاليا، ارتباط أي بحث بشخصية الباحث وبالمناهج التي يعتمدها. كما أن المجموعات ذات الدور الوازن في جل العلوم، والتي تطالب عموما بـ”الفكر المتعدد” للمقارناتية، تضعنا وجها لوجه أمام سؤال جوهري يتصل بالتداخل المعرفي وخاصة بالتعدد المنهجي.

التعدد، التكامل؟

    يشكل تحقيب السلسة، هو الآخر، موضوعا للنقاش؛ إذ هيمن توجه خاص بالنظر إلى لانهائية معاير تواريخ الآداب الوطنية، حتى إنها تحيل إلى قيم غير أدبية لا تنسجم والموضوع المدروس. فـ”البكاروك”Baroque الذي كان معروفا بألمانيا، كان لفترة طويلة مجهولا بفرنسا وبريطانيا العظمى؛ ذلك أن الكتب المدرسية الإنجليزية ظلت إلى زمن قريب تُصاغ بحسب التقلبات السياسية؛ نذكر على سبيل المثال: عصر إليزابيث (The Age of Elizabeth) ومرحلة الإصلاح ( The Restoration Period). بالإضافة إلى ذلك، نتساءل حول مدى مشروعية تقسيم زمن التاريخ الأدبي إلى حقب، فقط، تتعايش فيها تيارات مختلفة يهيمن أحدها – وأحيانا أكثر- بشكل متواقت نسبيا، الشيء الذي يضفي على الحقبة فرادتها. فمثلا، تبين الأجزاء المخصصة لـمنعطف عصر الأنوار (1760-1820) استمرار بعض أفكار الأنوار أو تحولاتها في توافق مع الرومانسية الوليدة. إنه تصميم متميز يهتم في نفس الآن بالدياكرونية والسانكرونية. أو هل من المفروض أن نضرب صفحا عن السانكرونية؛ بحيث نعزل تيارا واحدا أو مذهبا أو حركة (الرومانسية، الواقعية، الطبيعية، الرمزية…) من أجل وصف (عبر أية معايير؟) نسقها أو رموزها في مختلف تحولاتها؟ بالنسبة للفرضية الأولى، لا تتمظهر صور التيارات المعزولة بشكل جلي. أما بالنسبة للثانية، فإننا نجازف بتعويض الزمن الواقعي للحياة الأدبية بآخر مجرد وداخلي خاص فقط بالتيار المدروس، ومستوحى عادة من الخطاطة البيولوجية: الولادة/ النمو/ النضج/ الانحطاط/ الوفاة. زد على ذلك أنه من المستبعد أن تتطابق هذه المراحل من بلد إلى آخر. هنا أيضا، يأتي مفهوم التكامل من أجل إخراجنا من هذا المأزق؛ فالتصوران معا مترابطان بشكل طبيعي، حتى وإن كان أحدهما يتقدم على الآخر. فكيف يمكن أن نتحدث عن الحركات الطليعية دون أن نموقعها في علاقتها بالحداثة التي ظهرت مع بودلير (Baudelaire) وبالرمزية وبالحداثة التي عاصروها؟

       يلخص مفهوم “النسق المتعدد” الذي اقترحه  إيتمار إيفن- زوهار (Itamar Even-Zohar) بشكل جيد مختلف النظريات التي تعاقبت منذ الحرب العالمية الثانية من أجل تعريف الأدب. تعتبر هذه النظرية الأدب، إجمالا، بمثابة مجموع متعدد الأشكال يتكون من أنساق مترابطة ومتناسقة على نحو تُؤَسِّس معه وحدة مركبة ومتغيرة.وإذا تصورنا وحدة المتن الأدبي هكذا، فلن يبق أقل مثالية؛ ذلك أننا نرغب في التعرف على الكيفية التي تتمفصل عبرها هذه الأنساق. وبشكل مواز، لا نعرف كذلك الكيفية التي ستمكننا من جعل الآليات المتيحة للفهم متناغمة. في الحالتين معا، سيتم الاكتفاء، مؤقتا، بحلول جزئية في علاقتها بكل بحث على حدة. وبالتالي تظل دراستنا متعددة التخصصات.

لكن ما العمل إذا كان التجاور يفضي إلى التناقض، ما العمل إذا تعايشت في نفس المؤلف تقنيات يعتبرها البعض متعارضة في مبادئها؛ وذلك من قبيل التأويل المحايث والسوسيولوجيا، التنميط والتاريخ، السانكرونية والدياكرونية؟ يمكن أن نتساءل في هذا الإطار حول مدى واقعية هذا التناقض النظري. وبالفعل، فمن الناحية الديالكتيكية يجوز لنا أن نرجع ثنائية سانكرونية/ دياكرونية إلى فكرة التكامل، أي إلى العلاقة بين مظهرين من مظاهر الزمن. ومن ثم نلاحظ باستمرار تعارضات يبدو حلها متعذرا للوهلة الأولى، غير أن صعوبتها سرعان ما تُذلَّل عندما ننتقل إلى التطبيق. ولا تمنع الصدمات الإيديولوجية من أن يحصل تعاون فعال في مثل هذه المناسبات. وبهذه الطريقة يمكن للمنهجية التنميطية، التي تتعارض نظريا مع التاريخ، أن تتوافق معه من الناحية التجريبية، على اعتبار استهدافهما معا لنفس الغاية؛ وهي إلقاء الضوء على نفس النسق المتعدد من زويا مختلفة. ويبدو أن التعدد الموجود في الوحدة المميزة لموضوع البحث- أي الأدب – هو ما يبرر تنوع الوسائل.ومع ذلك فنحن نسلم، من وجهة نظر تصورية، بأن الروابط التي تربط بين طرائق معينة للوصف والتفسير ما زالت – حاليا – أقل وضوحا وصلابة بالمقارنة مع تلك التي تجمع أنساق التواصل الأدبي. ونلاحظ أن تكامل تحالفات معينة هو ذو طبيعة تجريبية أكثر من أن تكون مبررة نظريا. ولنؤكد أن التاريخ المقارن يرمي، أولا وقبل أي شيء آخر، إلى إنصاف الأدب؛ بحيث يُقوِّم المناهج تبعا لفعاليتها ولمردوديتها ولا يبحث عن اختبارها في حد ذاتها، كما لا ينشغل بهاجس مدى ملائمة أكيسوماتها.

 يعتبر هذا التكامل – أولا – مصدرا للثراء. فنحن نتوفر على الأرجح حاليا- يشهد بذلك هذا المؤَلَّف – على عدة نقدية متعددة المشارب بشكل لم يتوفر سابقا؛ بحث يمكن لأي شخص أن يختار بكل حرية ما يناسب كفاءته ونوعية أدواته وطبيعة موضوعه: السيميوطيقا والبلاغة والسوسيولوجيا وجمالية التلقي والنقد النفسي… الخ. هي إذن غزارة في الوسائل تولد حيرة في الانتقاء. فإذا كانت منهجية ما غير صالحة في حالة ما، فإنها يمكن أن تحقق المعجزات في حالات أخرى. وبالتالي،  فإن اختيار منهجية دون أخرى وتطبيقها يرتبط بمدى ملاءمتها للموضوع، وبالحدس أيضا. مبدئيا، لا يرفض التاريخ المقارن بشكل مسبق أية تقنية مجربة، سواء كانت حديثة أو قديمة، معروفة أو مغمورة، مكتفيا بتوظيف التقنية الأكثر اتصالا بمتطلباته. وتكمن الميزة الثانية [لهذا المشروع] في كون القارئ يجد نفسه في مواجهة مقاربات ونتائج متعددة، بل متباعدة، وبالتالي لا يكون مجبرا على قبول أو رفض أطروحة وحيدة. إنها تشكيلة من الاحتمالات الموضوعية توضع رهن إشارة القارئ؛ بحيث تحفزه على مواصلة البحث. أخيرا، تفيد ذاتيات المتعاونين في تصويب بعضها البعض. ورغم كل هذه المزايا، فإنها لا يمكن أن ترفع القلق الناتج عن اللاتوافقات النظرية.

تقسيمات

إن وحدة الأدب الكوني تبقى بمثابة وهم. وبما أن ظروف الوسط توجه، هي أيضا، التحولات الأدبية، فإن مؤلفات خاصة داخل السلسلة تنكب على آداب اللغات الأوربية بإفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية والأنتيل، مما يطرح إشكال “المناطق” الأكثر تعقيدا من مشكل الحقب… وفي النهاية، فقد خصص ركن للترجمات ولـ”أنماط” تعبيرية متميزة كـالمفارقة الرومانسية مثلا. وهكذا تأخذ تصاميم الأجزاء في اعتبارها كامل المذاهب النقدية الآنف ذكرها.

 التعددية والتكامل، حلان أقل أهمية من نموذج كوني صالح لا ريب في ذلك، لكنهما على الأقل يضمنان مناخا ملائما للبحث عن هذا النموذج.